فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال ابن عباس: لم يقل من فوقهم لأن رحمة الله تنزل عليهم من فوقهم ولم يقل من تحتهم لأن الإتيان من تحتهم فيه توحش، وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف قيل {من بين أيديهم} {ومن خلفهم} بحرف الابتداء و{عن أيمانهم وعن شمائلهم} بحرف المجاوزة، قلت: المفعول فيه عدى إليه الفعل تعديته إلى المفعول به كما اختلفت حروف التعدية في ذلك اختلفت في هذا وكانت لغة تؤخذ ولا تقاس وإنما يفتش عن صحة موقعها فقط فلما سمعناهم يقولون: جلس عن يمينه وعلى يمينه وعن شماله وعلى شماله قلنا معنى على يمينه أنه يمكن من جهة اليمين تمكن المستعلي من المستعلى عليه ومعنى عن يمينه أنه جلس متجافيًا عن صاحب اليمين منحرفًا عنه غير ملاصق له ثم كثر حتى استعمل في المتجافي وغيره كما ذكرنا في فعال ونحوه من المفعول به قولهم رميت عن القوس وعلى القوس ومن القوس لأنّ السّهم يبعد عنها ويستعليها إذا وضع على كبدها للرمي ويبتدئ الرمي منها فكذلك قالوا: جلس بين يديه وخلفه بمعنى في لأنهما ظرفان للفعل ومن بين يديه ومن خلفه لأن الفعل يقع في بعض الجهتين كما تقول جئته من الليل تريد بعض الليل انتهى، وهو كلام لا بأس به، وأقول إنما خصّ بين الأيدي والخلف بحرف الابتداء الذي هو أمكن في الإتيان لأنهما أغلب ما يجيء العدو وبسالته في مواجهة قرنه غير خائف منه والخلف من جهة غدر ومخاتلة وجهالة القرن بمن يغتاله ويتطلب غرّته وغفلته وخصّ الأيمان والشمائل الحرف الذي يدل على المجاوزة لأنهما ليستا بأغلب ما يأتي منهما العدوّ وإنما يتجاوز إتيانه إلى الجهة التي هي أغلب في ذلك وقدمت الأيمان على الشمائل لأنها الجهة التي هي القوية في ملاقاة العدوّ، وبالأيمان البطش والدفع فالقرن الذي يأتي من جهتها أبسل وأشجع إذ جاء من الجهة التي هي أقوى في الدفع والشمائل جهة ليست في القوة والدفع كالأيمان.
وقال ابن عباس شاكرين موحدين وعنه وعن غيره مؤمنين لأنّ ابن آدم لا يشكر نعمة الله إلا بأن يؤمن، وقال مقاتل شاكرين لنعمتك، وقال الحسن: ثابتين على طاعتك ولا يشكرك إلا القليل منهم وهذه الجملة المنفية يحتمل أن تكون داخلة في خبر القسم معطوفة على جوابه ويحتمل أن تكون استئناف إخبار لي مقسمًا عليه أخبر أنّ سعايته وإتيانه إيّاهم من جميع الوجوه يفعل ذلك وهل هذا الإخبار منه كان على سبيل التظني لقوله: {ولقد صدق عليهم إبليس ظنه} أو على سبيل العلم قولان وسبيل العلم إما رؤيته ذلك في اللوح المحفوظ أو استفادته من قوله: {وقليل من عبادى الشكور} أو من الملائكة بإخبار الله لهم أو بقولهم {أتجعل فيها من يفسد فيها} أو بإغواء آدم وذريته أضعف منه أو يكون قوى ابن آدم تسعة عشر قوة وهي خمس حواس ظاهرة وخمس باطنة والشهوة والغضب، وسبع سابقة وهي الجاذبة والممسكة والهاضمة والدّافعة والقاذفة والنامية والمولدة وكلها تدعو إلى عالم الجسم إلى اللذات البدنية، والعقل قوة واحدة تدعو إلى عبادة الله وتلك في أول الخلق والعقل إذ ذاك ضعيف أقوال ستة. اهـ.

.قال أبو السعود:

{ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيمانهم وَعَن شَمَائِلِهِمْ} أي من الجهات الأربعِ التي يُعتاد هجومُ العدوِّ منها مثلُ قصدِه إياهم للتسويل والإضلال من أي وجهٍ يتيسر بإتيان العدوِّ من الجهات الأربعِ ولذلك لم يُذكر الفوقُ والتحتُ. وعن ابن عباس رضي الله عنهما {مِنْ بَيْنِ أيدِيهِمْ} من قِبَل الآخرةِ. و{من خلفهم} من جهة الدنيا، و{عن أيمانِهِم وعن شمائلهم} من جهة حسناتِهم وسيئاتِهم. وقيل: من بين أيديهم من حيث يعلمون ويقدِرون على التحرز منه، ومن خلفهم من حيث لا يعلمون ولا يقدرون، وعن أيمانهم وعن شمائلهم من حيث يتيسر لهم أن يعلموا ويتحرزواولكن لم يفعلوا لعدم تيّقظهم واحتياطِهم ومن حيث لا يتيسر لهم ذلك، وإنما عُدِّي الفعلُ إلى الأوَّلَيْن بحرف الابتداء لأنه منهما متوجهٌ إليهم وإلى الآخَرَين بحرف المجاوزة فإن الآتيَ منهما كالمنحرف المتجافي عنهم المارِّ على عَرضهم، ونظيرُه جلست عن يمينه {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين} أي مطيعين وإنما قاله ظنًا لقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} لما رأى منهم مبدأ الشرِّ متعددًا ومبدأَ الخيرِ واحدًا، وقيل: سمعه من الملائكة عليهم السلام. اهـ.

.قال الألوسي:

{ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيمانهم وَعَن شَمَائِلِهِمْ} أي من الجهات الأربع التي يعتاد هجوم العدو منها، والمراد لأسولن لهم ولأضلنهم بقدر الإمكان إلا أنه شبه حال تسويله ووسوسته لهم كذلك بحال إتيان العدو لمن يعاديه من أي جهة أمكنته ولذا لم يذكر الفوق والتحت إذ لا إتيان منهما فالكلام من باب الاستعارة التمثيلية و{لاقْعُدَنَّ لَهُمْ} [الأعراف: 16] على ما قيل ترشيح لها، وبعضهم لم يخرج الكلام على التمثيل واعتذر عن ترك جهة الفوق بأن الرحمة تنزل منها وعن ترك جهة التحت بأن الإتيان منها يوحش، والاعتذار عن الأول بما ذكر أخرجه غير واحد عن ابن عباس رضي الله عنهما، وروي أيضًا عن عكرمة والشعبي والاعتذار عن الثاني نسبه الطبرسي إلى الحبر أيضًا، ولا يبعد على ذلك أن يكون الكلام تمثيلًا أيضًا ويكون الفرق بين التوجيهين بأن ترك هاتين الجهتين على الأول لعدمهما في الممثل به وعلى الثاني لعدمهما في الممثل.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله عنهما أن {مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} من قبل الآخرة لأنها مستقبلة آتية وما هو كذلك كأنه بين الأيدي {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} من قبل الدنيا لأنها ماضية بالنسبة إلى الآخرة ولأنها فانية متروكة مخلفة {وَعَنْ أيمانهم وَعَن شَمَائِلِهِمْ} من جهة حسناتهم وسيآتهم، وتفسير الأيمان بالحسنات والشمائل بالسيآت لأنهم يجعلون المحبوب في جهة اليمين وغيره في جهة الشمال كما قال:
بثين أفي يمنى يديك جعلتني ** فأفرح أم صيرتني في شمالك

وقال الأصمعي: يقال هو عندنا باليمين أي بمنزلة حسنة وبالشمال على عكس ذلك، والكلام على هذا يجوز أن يكون فيه مجازات أو استعارات أو كنايات.
ونظير هذا ما قيل: {مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} من حيث يعلمون ويقدرون على التحرز عنه {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} من حيث لا يعلمون و{عَنْ أيمانهم وَعَن شَمَائِلِهِمْ} من حيث يتيسر لهم أن يعلموا ويتحرزوا ولكن لم يفعلوا لعدم تيقظهم واحتياطهم ومن حيث لا يتيسر لهم ذلك، وقال بعض حكماء الإسلام: إن في البدن قوى أربعا: القوة الخالية التي تجتمع فيها مثل المحسوسات وموضعها البطن المقدم من الدماغ وإليها الإشارة بقوله: {مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} والقوة الوهمية التي تحكم في غير المحسوسات بالأحكام المناسبة للمحسوسات ومحلها البطن المؤخر من الدماغ وإليها الإشارة بقوله: {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} والقوة الشهوانية ومحلها الكبد وهو عن يمين الإنسان وإليها الإشارة بقوله: {وَعَنْ أيمانهم} والقوة الغضبية ومحلها القلب الذي هو في الشق الأيسر وإليها الإشارة بقوله: {وَعَن شَمَائِلِهِمْ} والشيطان ما لم يستعن بشيء من هذه القوى لا يقدر على إلقاء الوسوسة، وهذا عندي نوع من الإشارة كما لا يخفى، وقيل: غير ذلك، وإنما عدى الفعل إلى الأولين بحرف الابتداء لأنه منهما متوجه إليهم وإلى الآخرين بحرف المجاوزة فإن الآتي منهما كالمنحرف عنهم المار على عرضهم، ونظيره قولهم: جلست عن يمينه، وذكر القطب في بيان وجه ذلك ما بناه على ما قاله بعض حكماء الإسلام وهو أن من للاتصال وعن للانفصال، وأثر الشيطان في قوتي الدماغ حصول العقائد الباطلة كالشرك والتشبيه والتعطيل، وهي مرتسمة في النفس الإنسانية متصلة بها، وفي الشهوة والغضب حصول الأعمال السيئة الشهوانية والغضبية وهي تنفصل عن النفس وتنعدم فلهذا أورد في الجهتين الأوليين {مِنْ} الاتصالية وفي الأخريين {عَنْ} الانفصالية، وقيل: خص اليمين والشمال بعن لأن ثمة ملكين يقتضيان التجاوز عن ذلك وفيه نظر لا يخفى، وادعى بعضهم أن الآية كالدليل على أن اللعين لا يمكنه أن يدخل في بدن ابن آدم ويخالطه إذ لو أمكنه ذلك لذكره في باب المبالغة؛ وحديث «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» من باب التمثيل.
وقد يجاب بأن التمثيل اقتضى عدم الذكر فتدبر.
{وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين} أي مطيعين، وإنما قال ذلك ظنًا كما روي عن الحسن.
وأبي مسلم لقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} [سبأ: 2] لما رأى أن للنفس تسع عشرة قوة الحواس الظاهرة والباطنة والشهوة والغضب والقوى السبع النباتية الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة وإنها بأسرها تدعو النفس إلى عالم الجسم وأن ليس هناك ما يدعو إلى عالم الأرواح إلا قوة واحدة وهي العقل وما يصنع واحد مع متعدد:
أرى ألف بان لا يقوم بهادم ** فكيف ببان خلفه ألف هادم

وعن الجبائي أنه سمع ذلك من الملائكة فقاله على سبيل القطع، وقيل: إنه رآه قبل في اللوح المحفوظ.
ووجد إما بمعنى صادف فينصب مفعولًا واحدًا وهو {أَكْثَرُهُمْ} وشاكرين حال، وإما بمعنى علم فينصب مفعولين ثانيهما {شاكرين} والجملة إما معطوفة على المقسم عليه وإما مستأنفة، وإنما لم يفرعها على ما تقدم لأن مضمونها بمقتضى الجبلة أيضًا لا بمجرد إغوائه، ووجه التعبير بالأكثر ظاهر. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وجملة: {ثم لأتيناهم} {ثمّ} فيها للتّرتيب الرّتبي، وهو التّدرّج في الأخبار إلى خبر أهم لأنّ مضمون الجملة المعطوفة أوقع في غرض الكلام من مضمون الجملة المعطوف عليها، لأنّ الجملة الأولى أفادت التّرصد للبشر بالإغواء، والجملة المعطوفة أفادت التّهجّم عليهم بشتّى الوسائل.
وكما ضُرب المثل لهيئة الحرص على الإغواء بالقعود على الطريق، كذلك مُثلت هيئة التّوسل إلى الإغواء بكلّ وسيلة بهيئة الباحث الحريص على أخذ العدوّ إذ يأتيه من كلّ جهة حتّى يصادف الجهة التي يتمكّن فيها من أخذه، فهو يأتيه من بين يديه ومِن خلفه وعن يمينه وعن شماله حتّى تخور قوّة مدافعته، فالكلام تمثيل، وليس للشّيطان مسلك للإنسان إلاّ من نفسه وعقله بإلقاء الوسوسة في نفسه، وليست الجهات الأربع المذكوره في الآية بحقيقه، ولكنّها مجاز تمثيلي بما هو متعارف في محاولة النّاس ومخاتلتهم، ولذلك لم يذكر في الآية الإتيان من فوقهم ومن تحتهم إذ ليس ذلك من شأن النّاس في المخاتلة وإلاّ المهاجمة.
وعُلِّق {بين أيديهم} و{خلفهم} بحرف {مِن} وعلّق {أيمانهم} و{شمالهم} بحرف عن جريًا على ما هو شائع في لسان العرب في تعدية الأفعال إلى أسماء الجهات، وأصل عن في قولهم: عن يمينه وعن شماله المجاوزة: أي من جهة يمينه مجاوِزا له ومجافيًا له، ثمّ شاع ذلك حتّى صارت عن بمعنى على، فكما يقولون: جلس على يمينه يقولون: جلس عن يمينه، وكذلك مِن في قولهم مِن بين يديه أصلها الابتدا يقال: أتاه من بين يديه، أي من المكان المواجه له، ثمّ شاع ذلك حتّى صارت من بمنزلة الحرف الزّائد يجرّ بها الظّرف فلذلك جُرّت بها الظّروف الملازمة للظّرفيّة مثل عند، لأنّ وجود مِن كالعدم، وقد قال الحريري في المقامة النّحويّة مَا منصوبٌ على الظرف لا يَخفِضه سوى حرف: فهي هنا زائدة ويجوز اعتبارها ابتدائيّة.
والأيمان جمع يمين، واليمين هنا جانب من جسم الإنسان يكون من جهة القطب الجنوبي إذا استقبل المرء مشرق الشّمس، تعارفه النّاس، فشاعت معرفته ولا يشعرون بتطبيق الضّابط الذي ذكرناه، فاليمين جهة يتعرّف بها مواقع الأعضاء من البدَن يقال العَيْن اليمنى واليد اليُمنى ونحو ذلك.
وتتعرّف بها مواقع من غيرها قال تعالى: {قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين} [الصافات: 28].
وقال امرؤ القيس:
عَلَى قَطَنٍ بالشَّيْممِ أيْمَنُ صَوبه

لذلك قال أئمّة اللّغة سمّيت بلاد اليَمَن يَمَنًا لأنّه عن يمين الكعبة، فاعتبروا الكعبة كشخص مستقبِلٍ مشرق الشّمس فالرّكن اليماني منها وهو زاوية الجدار الذي فيه الحجر الأسود باعتبار اليد اليمنى من الإنسان، ولا يدري أصل اشتقاق كلمة يَمِين، ولا أن اليُمْن أصل لها أو فرع عنها، والأيمان جمع قياسي.
والشّمائلُ جمع شِمَال وهي الجهة التي تكون شِمَالًا لمستقبللِ مشرِق الشّمس، وهو جمع على غير قياس.
وقوله: {ولا تجد أكثرهم شاكرين} زيادة في بيان قوّة إضلاله بحيث لا يفلت من الوقوع في حبائله إلاّ القليل من النّاس، وقد عَلِم ذلك بعلم الحدس وترتيب المسبّبات.
وكني بنفي الشّكر عن الكفر إذ لا واسطة بينهما كما قال تعالى: {واشكروا لي ولا تكفرون} [البقرة: 152] ووجهُ هذه الكناية، إن كانت محكيّة كما صدرت من كلام إبليس، أنّه أراد الأدب مع الله تعالى فلم يصرّح بين يديه بكفر أتباعه المقتضي أنّه يأمرهم بالكفر، وإن كانت من كلام الله تعالى ففيها تنبيه على أنّ المشركين بالله قد أتَوا أمرًا شنيعًا إذ لم يشكروا نعمه الجمّة عليهم. اهـ.